لوحة تترنم بطهر الوانها

... فوق تضاريس أعمارنا المشرعة على العبث ثمة خطوط تتوازى تتقاطع تتلاشى  بين ثنايا حياتنا الصاخبة.
على رمال صحرائنا تتلاطم بحور قصائدنا الهادرة تتعرج بنا تنحدر تستقيم  تختفي لكن أوجاعنا باقية تجوس وحدها تلك الكثبان الموحشة.
قافلة أحزاننا تمضي مسربلة وكأنها بدأت للتو رحلتها  تتلوى نازفة  فوق خارطة الأرض كعروق شجرة حناء قديمة أوهن الزمن أغصانها وتماهى مع الرمل المخضب عبقها...
في مخيلتنا ثمة صور تختزنها الذاكرة تحمل جذوة أطيافها على كاهل الأيام تتدرج بنا من بهاء النصاعة الى حدود القتامة باردة أو دافئة هادئة أو  متحفزه  فكل شئ في هذا الكون والوجود له كيان خاص به، وكما أن للألوان روح تتنفس بها، فهي أيضا لها لغة تعبرعن ذاتها ومكنوناتها.
لغة متكاملة متداخلة تفوح عطراً.. حروفا.. ذهبية مرصعة بزمرد و ياقوت تشع توهجاً .. تبوح أبجديتها جملاً متلألأة تنساب مثل كائن ملائكي يفرد جناحيه مرفرفاً فوق الفيافي ... فوق الغيوم يلامس شغاف الوجدان عبر البصر... يبهرنا يشدنا اليه  فيأسر قلوبنا.
يهمس بنا.. يداعب أرواحنا بلغة شفيفة ناطقة لا يفقه ماهيتها ويعي كنتها سوى عصابة قليلة... ذوي سابقة وذائقة جبلت أبصارهم وبصيرتهم على رؤية النور والجمال...
وقف ملياً أمام تلك اللوحة... وراح يقبل خطوطها والوانها بعين دامعة.
أقترب منها بخشوع... ثم التفت الى الجموع الهادرة مخاطباً :
ها هي معجزة الألوان تتحقق أمامكم.. تتهادى بطقوسها السماوية أمام ناظرينا... تطرق أسماعنا بصوت رخيم عذب... تتنفس شجنا ونوراً.. من جوف ذلك الأطار المحفور بطوايا الضلوع .. تنهض الألوان كاملة لتروي قصة الأزل محنة الظُلامة المشتعلة في القلوب...
 لتتحول الى ترنيمة يصدح بشذاها الأبرار... وحدكم أنتم.. أنتم دون غيركم أياه العشاق...  يجيد ترديدها.. وحدكم فقط  تترنمون بآياتها ساعة بعد ساعة في زمن الأنتظار...
لوحة الأسرار مكتملة العناصر تختزل سفر الأحزان.. صارت بوصلة للنجاة  تقود  المبحرين عبر فضاء شموسها نحو بر الأمان... وحكاية الأزل تضج بمعانيها... تنوح نوح الحمائم الغريبة البعيدة عن شطئان الفرات.
تبكي  تتلضى بوجدها بحزنها القديم تناجي أفئدة بحجم الكف وأم  ثكلى تناغي بدموعها وريد طفل رضيع يتوسد صدراً مضرجا بالدماء...
هناك على مسافة رمح منتصب في جسد التراب( قربة) سقطت غيلةً أحتوشت سهام البغض أحشائها فسالت قطراتها رحيقاً مباح...
 ذي الجناح الأبيض حنى برأسه تضرعاً يستنهض المرمل بالدماء يشم عرف نسائمه... تأبى شمائله أن يعلو صهوته أحداً غير ذلك القربان..
 أرخى المطهر لجام فجيعته  مناجياً هلم بنا سيدي أعدو بك بعيداً أطوي سموات الأقدار سيدي لا زال بي رمق من عطش يطفئ لهيب الأهات..
تناهى  لمسمعه وقع أقدام  فسكت عن نجواه... لمح بجوانحه ظل الأحزان يقترب... ها قد جاءت كافلة الأيتام.. متكئة على الصبر تتعثر بالعبرات. تئن خطاها ولهة بين النار والدخان...  مدت ذراعيها تحتضن صبية هناك ألتهمت أطراف ردائها الأحقاد ... وبأخرى تتحرى جسداً أكلت الصوارم  منه منابت الأوداج .. جثت على محمل أوجاعها  تلملم بقايا الروح و الآل...
تكفكف دمعة حزن فاضت بالذكريات.. تلثم نحره بالقبلات .. ً أنبثقت من بين جنبيها زفرة  تصدعت لها قباب الأفلاك  وفاضت معها عيون الأملاك... أنكبت عليه شاكية...  أه  يا أبن أم  من بعدك صرنا سبايا بيد الأوغاد.
فتحول صوت وجعها وأنين شكواها... الى  ثورة تتفجر غضباً فوق كل الأصقاع.. وصدى حنينها وأريج دعواها يتردد على أمتداد الفصول والأيام.
أما نحن فهذا عهدنا لك سيدتي نجدده عند أبي الأحرار ..أن  نبقى نرتل أهاتك دوماً  سيدتي  يا كهف الأحزان.. نعم جئناكِ ملبين.. لعلنا نواسي  لحظة من لحظات جرحكم .. جرحنا الراعف  بين النواويس وكربلاء...
عندها غاص بين أمواج العاشقين عاري الصدر يهرول باكيا بحرقة المكلوم المفجوع  نحو كعبة الأحرار ملبياً نداء الأزل..
لبيك يا حبيبي...
لبيك يا حبيبي...