تراتيل سفر الأحزان


... لم يكن صمتهٌ حيال الفجيعة وهي تفتك به وتخنق أنفاسه ببطئ  شديد كأفعى  عملاقة التفت حول جسده الناحل طويلاً..  فعجزت عن أبتلاعه كرهاً.؟!
لم يكن وحدهُ يعاني متلظياً  بوابل أشتعالات ما تلبث أن تخمد لبرهة حتى يرتفع صوت لهيبها  ناراً... يستعر أشد قساوة وحرقة.. فيشوه بسخامه الأسود ملامـح تـكوينهم وتطفئ غرائبيتها جذوة الحياة فيهم...
الفرق أن صمته صار عنواناً .. يستدل به في متاهات متعرجة تخطفهم عنوة لترميهم خلف أسوارٍ موحشة. عناده بات سداً يحول بينهم وبين سيول أحزان هادرة تجرفهم نحو مهاوي سحيقة، مظلمة...
 لذا كان صمته أبلغ .. أما رغائهم فكان ضجيجا
يجوب هائماً حالماً بكل حواسه تلك القفار يطوي مسافات عمره متراخياً على أهداب الزمن.. دون وجهة محددة يقصدها.. رحيل دائم سائحاً في مناكب الأرض الأربعة. أرض غريبة لم تطئها قدم أنسان ..  ينزلق حتى حدود تلك القيعان المغبرة تغريه بالولوج  اليها... وكلما وصل نهاية نقطة ما يتصورها خلاصه... يجد نفسه أنه لا زال بعيداً عن تلك النهاية .
 ليكبر يوماً بعد يوم ذلك الهاجس الدفين.. ويشيخ معه ذلك الجواب المفقود.!!
كيف تقوده بوصلة مشحونة باطياف سرمدية لا يعلم كنة مصدرها؟.
لماذ تستفيق بدواخله صور مرتدة من أعماق أزمنة سحيقة.؟
هل هناك قوة عظيمة خفية تجذبهُ اليها ؟.
وهكذا يبقى سر أندفاعه نحو تلك الأصقاع النائية لغزاً شائكاً ومحيراً.!!
عزاءه الوحيد على فقدان الجواب. هو ذلك الأحساس الدبق.. أحساساً مشفوعاً بهاجس لذيذ يغمر جسده يلامس أعماقه يحرك مشاعره.. يأسر روحه الندية فيفتح ذراعيه طائعا لهذا النداء الخفي. .. يتمرغً بترابها يتدحرج بمرح ببراءة الطفولة على ضفافها... تشده خيوط شفافة سحرية تحرك فيه عناصر الحياة .!؟ لكنها لا تكتفي بهذا القدر...
اذ راحت تشاكسه..  تعانده أكثر من ذي قبل...  تثير في نفسه بقايا هياج جامح وقديم يثور مثل بركان هادر.. يخمد للحظة ثم مايلبث أن يدمدم ثائراً مرة أخرى.. يمور تحت جوانحه يزلزل كيانه.. فتصبح جميع العناصر تعمل معاً بتوازي تام.. ثمة ألم فاضح و فرح غائر، وأمل غامض، يدغدغ مخيلته فيسهدهُ بقية العمر.
هكذا شوهد وعرف بين سكان قريته... هائماً صوب الحلم، جاء وحيداً وعاش وحيداً ورحل وحيداً كبطل أسطورة ملحمية..  كعشبة برية نمت وسط أرض مجدبة فارقها المطر منذ أمد بعيد...  فأضحت مقصداً ترنو اليه قوافل الخائفين.
ملاذاً تخفي بين وريقاتها اليانعة أحلام المفزوعين مخافة أن تذرو أجسادهم الغضة ريح عاتية أو تحرق بقايا أبتسامتهم سموم صحراء لاهبةً.
هبط من كهف أحزانه الى ساحة قريته الحزينة الغافية فوق جرحها الراعف مرددا آيات من سفر أحزانه المقدس، زائراً مرابع صباه خفية.. يهبط اليها كلما غزا الحنين فؤاده المهموم... هارباً من عزلته الى عزلة أكبر تتسع حينما تضيق حدقة عينيه الواسعتين.. يرتمي عليها بكليته كعاشق يلاقي حبيبته بعد طول فراق.
يقبل حجارتها يركض بأسواقها يمضغ قطع الحلوى فوق أرصفتها وكنية الغريب تلازمهُ. تطارده الالاف الوجوه الجامدة، الالاف العيون الزجاجية، أصنام مدججة بعدة حرب صدئة.. همسات العابرين وطبقات المخبرين تحصي عدد أنفاسه...
توقف عند جداره العتيق الذي أعتاد الركون اليه بأمان كلما هبط الى قريته الحزينة.. للجدار حكاية .. خطت عليه أكف العابرين شهادات ميلادهم وساعة رحيلهم أذابت عباراتهم الأخيرة تفاصيل وخطوط  بنائه.. فصار كقطعة قماش لطخ موهوس ماجن بياض نسيجه الناصع بفرشات الدم والموت.
تحسس تلك الندوب السوداء بأنامله أخرج رصاصة دفنت روح قرينهُ غيلةً... وراح يتمتم بذلك الوجع الموروث.. والعبرات تزاحم الكلمات... مسه الأعياء وهد جسده الناحل حزن عتيق.. تهالك على الجدار تاركاً ظهره المتقرح ينساب بسكينة نحو الأرض ضم ركبتيه الى صدره بكلتا يديه.. أسقط  رأسه مطلقاً زفرتاً أنبثقت من جوف ذاكرة مثقلة... تئن تحت وطأة فراقهم.
التمعت عيناه شذرات صافية أنسابت على خده الغض فبللت أكمام قميصه... أما  روحه فقد أرتفعت الى أقاصي تلك الجبال النائية المزدانة بخضرتها البهية..  الى قممها العالية ومسحة بياض لثلج شتاء ذائب يتلألأ  نوراً وضياءً  فوقها ... يتلألأ عظمة كلما أنبلج فجراً جديداً يرسل تباشير صباحاته خيوط مذهبة تنسج تاجاً يكلل هامته بالوقار...
في المساء تصدح أوديتها الفسيحة بصدى صرخات فتية الربيع... مجتمعين حول نيران خشب البلوط أبتهاجاً بمقدم ( نيروز)  لتتعانق دعواتهم.. وتشتعل أمنياتهم.. أبتهلاتهم .. نوراً فوق جبال ( قره داغ ) لترتفع أرواحهم عالياً .. عالياً  مع الغيوم مثل طائر السنونو حين يعانق وجه السماء ...
أهازيج .. زغاريد  تفوح عشقاً من تلك التلال الصغيرة قبل أن تملأ أجسادهم العارية سفحه المنساب .. قبل أن تنمو على صدورهم المنشورة زهرة الأقحوان تذكاراً للأيام الأتية...     
رفع رأسه متثاقلاً .. رمق النجوم معاتباً .. أوغل بحلمه العذب هذه المرة بعيداً يمخر عباب الذاكرة .. أمتطى عربة أسرجت بخيول مطهمة تضرب بحوافرها المحجلة أكوام الغيوم فتبعثرها على وقع ترانيم جنائزية تشجو أجراسها النحاسية سمفونية الوجع ليلة نحر القربان.
تحف موكبه الملائكي أسراب حمائم بيضاء مطوقة بحمرة قانية تفرد جناحيها مرفرفة على جانبي موكبه المهيب... تأخذه عبر سهوبها الشاسعة الممتدة تحت عينيه الصافتين كسجادة مزخرفة فرشت أمامه ترحاباً بمقدمه.. نقشت عليها الأيام التماعات لأرواح أنبثقت من رحمها.. أجيالاً حملو أنوار مشاعلهم يضئُ الحياة بيد، وفي الأخرى يرصفون دروب مبتلة الأماني...
تنفس شوقاً.. لكز خيله فندفعت تطوي سماوات عمره كنجم متلألأ يسافر عبر المجرات ... تحيط عربته هالة كبيرة تشع نوراً كأنها كوكب دري متوهج.. لتعرج به على حقول القصب الباسقة بعناد فوق وجه الماء ، ترنو ضارعة الى السماء تتمايل نواحاً مع كل نسمة هواء يلامس جسدها النحيل... تقف شامخة صابرة بكبرياء الأنبياء.. تصرخ بوجه الغرباء ... عودو من حيث أتيتم من شقوق الأرض أو الجدران.!! فتستنجد باكية بطهر المكان..    
لتحيل نفسها سرادق تآوي أفئدة صغيرة ركضت فوق ساحتها المطوية مع كل صباح .. تحفظ  بين جنباتها  أسرار العذارى.. ضحكات خجلة لصبايا أفردن ضفائرهن هاربات، سابحات صوب الشمس ... وفي المساء حين يبسط  الليل عباءته فوق الماء تعكس تموجاته أضواء الفوانيس وقوارب ضمأ تشق مجاهله بسكينة لكي لا تفزع صغار ( الخضيري ) تتناهى الى مسامعه أدعية وصلوات أطفال السماء ساعة الغبش...
 لاح أمامه خنجراً مستل يعزف موسيقى الموت على أوتار عطشى حناجر تلهج  مناجية لطائف معبودها... معشوقها المتجلي في تلك العتمة... فيحول ذلك الخنجر المـلعون المسموم  بينهم  وبين البوح مـن الوصول .. الــى ...
أنتفض فزعا بعد أن لامس طوفان المارة أطراف حلمه... نظر الى تلك الوجوه الصنمية الجامدة قليلاً .. ثم وقف بينهم كرمح مصلوب فوق الأرض، مردداً ترنيمته الأبدية...
ملعون فينا ذلك الصمت...
ملعون فينا ذلك الخوف البليد...
ثم أنطلق مسرعاً يلملم أجزاءه.. تاركاً أثار دموعه معلقة على ذلك الجدار.. راح يهرول متئبطاً حقيبته الصغيرة راكضاً مع جموع المنتظرين ... مستقلاً أول سرب متجهاً صوب ملاذ العاشقين....       


تعريفات :

1-( نيروز ) هو عيد الربيع تحتفل به بعض الدول الأسلامية ومنهم العراق.
2-( قراه داغ ) سلسلة جبلية تقع شمال العراق.
3-( الخضيري ) طائر يستوطن منطقة الأهوار جنوب العراق.