ذاكرة الأوجاع تنزف أسرارها

... إحدى اشارات الغروب الباردة .. سائراً لوحده، يحمل بعضاً من أوراقه المبتلة ، معطفاً داكناً ، قبعةً سوداء، سيجارة مشتعلة لا تنطفئ ، على كتفه الأيمن يحمل حقيبة جلدية ، وأغلب الأحيان يشعر أن الحقيبة تحمله كما كان يقول...!
يمشي بخطوات متثاقلة بين ذلك الركام المتحرك على نواصي مدينته القابعة في أعماق الظلمة، يجر خلفه ظلال جسد يفوح شيخوخة مبكرةً، وأمامه تتصارع مشاهد مبهمة، اغتراب يضيق معها حدود المكان ويتلاشى عندها الزمن.
عذابات يستقبلها كل يوم كما تستقبل الشجرة العاصفة، دون أوراق ودون صراخ...
فجأة مزق عويل البنادق أحشاء السكون..فتح عينيه الكبيرتين وقف بين الجموع المحتشدة على جانبي الطريق.. ترقب مذهولة موكب ذلك البائس  محمولا  فوق الأكتاف يرقد داخل صندوق خشبي ...  تتلقفه الأيادي كمزقة لشراع سفينة حطمتها أمواج البحر الغضوب.
صراخ ، عويل  نسوة ... أطفال يتدفقون نحو بحر المشيعين حفاة يجمعون بقايا الموت الصاخب بفرح مدجن .. تذكاراً لهذة اللحظات الهاربة.
الصداحون يعزفون لحن الرجوع برتابة وهدوء، السماء تذرف دموعها فوق الحشود ، تنثرها عليهم  قطرات باردة، تبل غلتهم ، تطفئ نيران حزنهم الملتهب،
تنهد بحرقة ثم حول وجهه مبتعداً، أغمض جفنيه وترك روحه تسبح ساعيتاً الى أعماق الانهاية تستنطق الناموس...
 أي مطر سيغسل كل هذه الدماء.؟
أيعقل أن يكون الموت وضيفة الحياة.؟
أيعقل أن يصبح الشر عنوان  كل الفصول.؟
رفع يديه نحو جبهته والدماء المحتقنة داخل جدران شرايينه  تكاد تتفجر حزناً  وكمدا.. تمتم بصوت مرتفع لا.. لا .. كفى ، لنصرح بالحقيقة الثابتة، الحرب المباركة محض هراء، مجرد خدعة لا أثر لها في وجودنا، لنقف معاً، لنقطع طريق الدماء المتدفقة ، لنقول للسفاكين بصوت واحد ، كفاكم قتلاً  فقد شوهتم وجه مدينتنا الجميل، الحياة هبة منه وحده .؟ ويعز علينا أن يسلبها أحداً دونه. لنمزق جدار الخوف. تعالو نغوص في أدغال الأنسان ، تعالو معاً نمنح أنفسنا لوناً أخر من مباهج الحياة، قبل أن تتراءى بلون غير لونها...
رفع رأسه محدقاً بالأفق البعيد.. يحصي تلك الضربات التي نزلت فوق مدينته منذ سنين وسنين وباتت تركض في شوارعها أشباح أحلام تركها الصغار عنوة.. وأجساد الأمهات تقبع مطوية مثل حكاية منسية تنتظر عودة أبنها الغائب.
غادرت الجموع المكان ، وقف وحيداً تداعب معطفه الأسود برفق ريح هادئة تمسح بحنان بقايا  قطرات ندية أنسابت على وجهه، منذرةً أياه بمساء أخر كئيب وطويل.
ثم راح كعادته سائراً لوحده ، دلف الى أحد مقاهي شارعه العتيد.. تهاوى فوق أحد مقاعده الخشبية، انفاسه  تتلاحق بسرعة كتلاحق التقارير السرية عليه وهي تحصي انفاسه  ، روحه ترفرف كروح عصفورة سقط  صغيرها من عشه العالي، هلعة صارختاً مخافة أن تطى  أقدام الحفاة جسده الرقيق.
حملق كثيراً في أجواء المكان.. جدرانه مطلية بلون مائل للصفرة ، أجساد نخرها السوس وهدها الهرم تتكوم في زوايا النسيان .. مصابيح متدلية من سقفه المصدوع تلفظ محتضرة أنفاسها الأخيرة.. أواني معدنية عفا عليها الزمن ..
 صور فوتوغرافية متناثرة هنا وهناك أطفئ نسيج العنكبوت شعاع أسرارها.
جاء القديم حاملاً فنجان المرارة ، بيد مرتعشة ووجه متجعد يعكس أوجه الكتب والأسفار يغلفه حزن دفين، تقرأ بين طياته تاريخ حجارة المكان... شاربه المعقوف يشدو بوقار عهد فتوته الزاهية، فتوة إنطفأ وهجها فخمدت نارها. لم تخلف وراها سوى دخان المباخر تدفع به نحو النسيان.. وضع الفنجان بصمت وعاد يدور في خارطة المكان متحاشياً  أكتافهم المكتنزة..
أرتشف بضع رشفات ، طاف ببصره عبر كوة المقهى الزجاجية فتراءت له منارة الحق باسقة كنخلة جنوبية شارعة صدرها الدافئ لتلك الأرواح الضئيلة..
 كقديسة حانية على وليدها ... محتضنته أياه بذراعي الخوف والحنان .. وعين السماء تحرسهم معاً..
عاد يستطلع أرجاء المكان، أنامله تداعب سطح الفنجان بحركات دائرية، وبؤبؤ عينيه يعكسان أشكالاً لكائنات خرافية هلامية، خرجت له ساعة غفلة من وراء ستر الظلام، من بين شقوق الجدران، أشكال نحاسية ملساء رخوة الأبدان لها شعيرات مدببة مسمومة تندس زاحفة بين الأنفاس، ترسل فحيحاً  يصم الاذان ، تلتهم غيلة عذوبة وفصاحة الكلمات...
دس يديه داخل جيبه أخرج أخر لفافة تبغ، وراح يتنفس دخانه على مضض ، يمضغ حزنه العالق  بين كتفيه، لتدمدم روحه المعذبة بمرارة شفتيه الذابلة كفوهة بركان تتفجر بصاقاً ترسل حمماً نارية من سجيل تحرق ديدان الصخور الجرداء لتحيلها الى هباب منثور..
أحس بمسامير المقعد تنهش جسده الكهل،و توقظ فيه سيل ذكرياته الأليمة ورائحة العفن وحيز الوجود ينكمش على نفسه كزنزانة أنفرادية، تنبثق من أعماقه غصة تقف حائلاً بين اليوم والغد.. ليندلق أمامه سائلاً أحمر يسيل شوقاً نحو الباب فيتبعه كطفل خاف أن يفقد رسم أمه في زحمة المراقد...
أخذ يعدو ويعدو وعيناه تذرف رذاذها دون توقف فوق الأسفلت.. مستذكراً طيف أيامه الماضية، قبل أن  تستباح خفافيشهم براءة الأشياء، حين تجول ذئابهم تقتل أحلام غافية بوداعة الصغار في عتمة ليل الشتاء... لتطاردهم الألاف الكلاب المدربة... والألاف الوجوه المبهمة.
توقف عند مجرى أحزانه.. جثا على ركبتيه فوق قطعة عشب تتشبث باصرار على أخضرارها، رفع يده نحو السماء.
أيتها الحرية العلوية.. صبيّ جام غضبكٍ عليهم وارسليهم الى أخاديد جهنم.
أيتها الحقيقة الكاملة.. أرسلي صاعقة تفلق هذه الرؤوس الخاوية.
أيتها الأنوار الشامخة... أوقدي نجومك البعيدة، أنري دربي ... قودي مركبي الى شطآنك أو أرفعي روحي الى عليائك .
 أيتها السماء ... لا تتركي ابناءك البؤساء يحرقون ليلهم بكاءً... نحيباً على صغار يتلوون في مضاجع الجوع.
تهاوى.. تشظى .. ساجداً فوق عشبه المخضر بعد أن ثقُب رأسه ذلك الصوت
 ليجد نفسه داخل صندوق خشبي مشروخ ، لمح من خلال ذلك الشرخ  جموع غفيرة تمضي به بعيداً.. فحبس ضحكته الأخيرة عنهم.. كي لا يتأخر عن الوصول الى نهاية مفتوحة على .. الأمل ...